المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : عن المتنبي وقصيدة: خير جليس!


الشفق
03-07-2015, 01:51 PM
عن المتنبي وقصيدة: خير جليس


مُشكلة المتنبي الأساسية كانت في طُموحه الزائد.

فشخصيته في حالة تَطلُّع دائم إلى حلم كبير يتمنَّى تحقيقه، ويراه حقًّا له، وأنه مكانه الطبيعي الذي يَجب أن يكون فيه، لم يَكتفِ أبو الطيب المتنبي بما وصل إليه مِن مرتبة عليا في مجال تخصُّصه الذي برع فيه وفاق كل أقرانه المعاصرين له، لم يَكتفِ بمُجرَّد كونه شاعرًا يَتنافس الملوك والأمراء على إعطائه الهدايا والأموال؛ كي يمدحهم في قصيدة مِن قصائده التي ستَنتشِر - كالعادة - في طول بلاد المسلمين وعَرضِها.

فالحقيقة التي يَعرفها دارسو حياة المتنبي أن وضعه الاجتماعي - كشاعر - كان يمثِّل جزءًا بسيطًا فقط مِن طموحاته، رأى المتنبي نفسه أهلاً لإدارة إمارة وحُكمِها، وأنه يتمتَّع بالذكاء والحِكمة المطلوبَين لمثل هذا المنصب.

لكن هذه "الثقة في النفس" ذاتها كانت السبب الأساسي الذي جعل الملوك يَخشون طموحه، ويعمَلون دائمًا على الحدِّ مِن آماله السياسية، محاولين إقناعه بالعدول عن طلب الإمارة والاكتفاء بالمال والشهرة ورِضا أصحاب السلطة عنه.

وفي هذا المقال سأعرض تفصيلاً لإحدى قصائده التي أجدها خير مثال للموضوع، وهي قصيدة "خير جليس في الزمان كتاب"، والتي أعتبرها مِن أصدق ما قاله المتنبي، وأقرب قصائد ديوانه إلى قلبي، ويُمكن بدراستها التعرُّف على نفسية الشاعر في مرحلة حَرِجة مِن حياته؛ حيث يبدأ في التخطيط لهروبه من مصر وحاكمها الأسود كافور الإخشيدي، بعد أن عجز - مرة أخرى - عن تحقيق طموحه السياسي.

لكن الموضوع يحتاج تمهيدًا قصيرًا لوضع القصيدة في سياقها المناسِب، ولتتعرَّف على الجو العام الذي قيلت فيه.

لو أردنا تلخيص وظيفة الشاعر الاجتماعية في العصر الذي عاش فيه المتنبي، فلن نجد أفضل مِن وصف هذه الوظيفة بـ الإعلام؛ فأيُّ حاكم ناجح وقتَها كان يفهَم الأهمية السياسية لقصيدة مُمتازة تمدَح صفاته وتمجِّد أفعاله، وكيف أنها ستَطير في البلدان، وتتقاذَفها الألسن، وتنتشر - حسب قدرة الشاعر نفسه وشهرته وحجم جمهوره - بحيث يَفوز هذا الحاكم الممدوح بقدر لا بأس به مِن الشُّهرة والهيبة وحسنِ السُّمعة، وفي نفس الوقت فإن قصيدة ذمٍّ وهِجاء يُمكن أن تنقص كثيرًا مِن هَيبة الحاكم المقصود، وتكون وصمة عارٍ على مرِّ العصور، كما حدث فعلاً مع مَن هجاهم المتنبي في ديوان شِعره.

وهذا هو السر وراء تنافس النُّبلاء والأمراء على خَطبِ ودِّ الشُّعراء، وما جعلهم يَحرصون على أن يَزورهم الشاعر الشهير الفلاني أو العلاني في بلاطِهم، ويَعيش في قصورهم ليمدَح أفعالهم، على أن يُجزلوا له العطاء مقابل خِدماته، ويُغرقوه في الذهب والفضَّة، والجواري والعبيد، والملابس الغالية.. إلخ.

ولو رضي المتنبي بهذا الوضع لرَضي الملوك والأمراء عنه، وما عاملوه بحذر كما فعلوا، لكنَّ طموحه ومعرفته لقدراته جعلاه يُقارن بين صفاته وصفات هذا الأمير أو ذاك ممن يمدحهم، فيرى أنه هو الأولى بالجاه والمَنصِب منهم، بل ربما كانت قصائد "المدح" يَزيد عدد أبيات فخرِه بنفسه فيها على غرض القصيدة الأساسي، وبطبيعة الحال كان الأمراء يفهَمون نزعة الاعتداد بالنفس هذه، ويفهمون أن نظرة المتنبي لهم تختلف عن نظرة باقي الأتباع لهم؛ فهو يراهم كأنداد وأنظار له، وكان مِن الطبيعي - بالتالي - أن يختلف تعاملهم معه عن تعاملهم مع باقي الأتباع، فنظروا له كمنافس، وكَخطر محتمل، وعملوا جاهدين على المحافظة على علاقة متوازنة مع الشاعر؛ بحيث يستفيد الطرفان؛ الأمير ينال المدح، والشاعر ينال الحظوة والهِبات المادية، لكن على أن يَتنازل الطرفان أيضًا عن بعض الأمور؛ فالأمير يَحتمِل نبرة الشاعر المُتعالية وثقته الزائدة بالنفس، والشاعر يتنازل عن حلم الإمارة وتطلعاته السياسية.

ولم تكن خشية الأمراء مِن المنافسين هي خشية غير مبررة؛ فوقائع العصر امتلأت بالدسائس والاغتيالات السياسية والانقسامات؛ بحيث كان الملك أو الخليفة أحيانًا لا يَكاد يُرسل أحدهم كأمير تابع له على إحدى الولايات حتى يَصل له خبر انفصال هذا الأمير عن سلطته واستقلاله بالإمارة التي تمَّ إرساله حاكمًا عليها!

فعندما تجد المتنبي يَطلُب ويلحُّ في طلب إمارة يكون حاكمًا لها، وهو معروف بفَخرِه الشديد بنفسه وبقدراته، فلا تعجب عندما تجد كافور الإخشيدي يرفض المسألة بلطف ولباقة؛ فقد كان حاكمًا عاقلاً، يفهم طموحات الرجال وغَواية المَنصِب وشهوة السُّلطة.

أغدق سيف الدولة وكافور على المتنبي الأموال، لكن طموحه السياسي كان أكبر، رأى المتنبي أنه يُقابَل بالمُماطلة وتسويف الوعود حتى ضاقت نفسه وتأكَّد ألا أمل له في أن يكون حاكمًا، وأنه سيظل دائمًا "الشاعر الشهير أبا الطيب المتنبي" فقط لا غير!

فارَقَ المتنبي بلاط سيف الدولة في حلب، ثم بلاط كافور في مصر، لكن طبيعة الفراق اختلفَت في الحالتين؛ فسيف الدولة الحمداني كان يمثِّل كل ما يصبو إليه المتنبي من صفات؛ شهامة، وقوة، وكرم، وسلطة، وأخلاق عربية، ولهذا عندما خرج المتنبي غاضبًا من بلاط سيف الدولة لم يقطع الودَّ تمامًا، بل بقيتْ محبة الأمير في نفسه، أما في حالة كافور حاكم مصر الزنجي فكان مدح المتنبي له على مضاضة أصلاً، ولهذا عندما خرج غاضبًا مِن بلاطه قطعَ خطَّ الرجعة، وكال له اللكمات المعنوية في صورة أبيات هجاء وسخرية وتهكُّم، نراها الآن فنتعجَّب مِن شدَّتها، بل وعُنصريَّتِها!

خرج المتنبي مِن عند سيف الدولة - كما يصفه العلامة أبو فهر محمود شاكر في كتابه (المتنبي) - و"قد أصيب في آماله السياسية، وأصيب في هوى قلبه، وأصيب في محبَّة سيف الدولة، وما كان يُضمِر له من الإخلاص والتوقير والودِّ".

ومرَّت فترة انتقالية قصيرة بين خروجه مِن حلب مِن عند سيف الدولة الحمداني إلى أن وصل إلى مصر عند كافور الإخشيدي، وحتى بعد وصوله لمصر لم يبدأ الشاعر في مدح كافور تلقائيًّا، بل ظل فترة ممانعًا مُتباطئًا، فحاول كافور استمالته بالعطايا والهدايا والأموال، إلى أن اضطر المتنبي إلى مدحه في شعره.

يقول شاكر: "لم يجد بدًّا مِن أن يَحمِل نفسه على مدح هذا الأسود الخَصِيِّ؛ علَّه يُصيب عنده ما فاته عند غيره مِن الفحول البِيض"، وهذه الجملة المحورية هي مفتاح القصيدة التي نتكلم عنها؛ فمسألة السواد والبياض في أبيات القصيدة تشير مِن طرف خفي إلى الاختلاف بين سيف الدولة وكافور، وكأن الشاعر يمدح كافورًا لكنه يهجوه في نفس الوقت عن طريق المعاني المستترة والألفاظ التي تُخفي في باطنها ما يُناقِض ظاهرها!

ولا شك أنه كان يتحسر على اضطراره إلى تملُّق كافور بعد أن كان يمدح مَن هو في نظره أفضل منه ألف مرة - أي سيف الدولة الحمداني - وبالمقابلة بين اللون الأبيض والأسود استطاع المتنبي إخفاء بغضه لكافور وحنينه لسيف الدولة، فكلمة "الأبيض" هي مِن أسماء السيف، ووصل الأمر بالمتنبي أن افتتح قصيدته بمدح الشِّيب وذمِّ الشباب؛ لأن الشعر الأشيب أبيض، أما الشَّعر في حال الشباب فيكون أسود!

ويقول شاكر في (ص: 361) وما بعدها من كتابه، تحت عنوان "مدائح كافور وما تتضمَّنه مِن هِجاء كافور": "إن كافورًا كان يعلم يقينًا أن أبا الطيب لا يُضمر له حبًّا ولا كرامة، بل كان يَزدريه في نفسه"، ويستبعد أنه كان "يَخفى على كافور ما سخر أبو الطيب به في شعره من ذكر سواده والتعريض به، وجعله مِن مادة مدحه له" مع أن المتنبي "كان يَطوي تحت ألفاظه معاني تهكمه بكافور"

لكن، مَن هو كافور هذا الذي اتخذه المتنبي هدفًا لسُخريته اللاذعة؛ بحيث صار قارئ ديوانه يَكاد يموت ضحكًا مِن براعة الشاعر في اختراع معاني التهكُّم به؟!

كافور كان عبدًا زنجيَّ الأصل، أسود البشرة، لكن براعته وحبه للتعلم جعلت سيَّده حاكم مصر الإخشيد يُحرِّره ويقرّبه مِن السلطة، إلى أن وصل كافور إلى منصب الوصي على العرش بعد موت الإخشيد، والحاكم الفعلي للبلاد تحت مسمى الوصاية على ابن الإخشيد.

كُتب السيَر تُعطيك تصورًا مُختلفًا تمامًا لكافور عن الصورة التي تراها في ديوان المتنبي، فإن بحثتَ في كتب التاريخ تجد أن المصريِّين كانوا يُحبُّون كافورًا كحاكم كريم سخي، حَمى الدولة مِن أطماع الشيعة الفاطميين لأطول فترة مُمكنة، وكانت الأمور في عهده مستقرة، وكان يقرِّب العلماء والشيوخ والأدباء منه، ويُحيط نفسه بصالحي الدِّين، ولقبه كان أبا المسك، واسمه مِن شجرة الكافور، والتي ثمارها سوداء اللون تشبه التوت، ومِن المواضع السوداء في سيرته أنه متَّهم بتدبير قتل ابن الإخشيد؛ كي لا يُنازعه الملك، بعد محاولات كثيرة بإقناعه بترك المسألة والاكتفاء بما يُصرف له مِن الأموال والعطايا تكفيه ليعيش في دعة ورفاهية.

وكافور كان مخصيًّا كعادة بعض تجار الرقيق مع العبيد، وهو أمر استغله المتنبي بالطبع في قصائد هجائه التي قالها بعد خروجه من مصر، ويقول محمود شاكر: إن المتنبي كان "يجتهد في أن يظفر من كافور بولاية من الولايات يقوم عليها؛ ليُجرِّب نفسه بعد أن أخفق في عقد آماله على غيره"، وهذه القصيدة التي سنتحدث عنها كانت آخر مرة طلب فيها المتنبي هذا الأمر من كافور، وصرَّح فيها بما يريد، وبموقفه مِن مُماطلة كافور في المسألة، ثم ترك مصر بعدها، ولم يرَ كافورًا مرة أخرى بعد إلقائها أمامه.

والقصيدة لا تنفصل عن الظروف التي قيلت فيها، فتلك الفترة كانت نهاية فترة المتنبي بمصر، وكان ضيق النفس، يتجاهَل استدعاءات كافور إلى القصر، ولا يَكاد يُخفي بغضه له وللمكان وللوضع كله، وكان كافور يَحذَر مِن هروب المتنبي فجأة فجعل عليه العيون والجواسيس ليُتابعوه، وخوفه مِن هروبه هو لعدة أسباب؛ منها ضياع شاعر شهير مثله يتنافس الملوك في تقريبه منهم، وخوفًا مِن تحوُّله بعد هروبه من المدح إلى الهجاء وتشويه السُّمعة، وهو ما حدث فعلاً كما توقَّعه كافور.

ويمكن أن يقال: إن كافور كان يَحبِس المتنبي فعلاً في سجن ناعم، ويرفض حتى أن يَتركه يَخرج في زيارات خارج مصر؛ مما زاد مِن ضيق الشاعر وكرهه للمكوث بمصر.

وكل هذا ستجده في القصيدة؛ حيث مزج المتنبي بعبقريَّة فنِّية بين مشاعره الخاصة وغرض القصيدة الرسمي والذي هو مدح الحاكم، وكانت النتيجة هي تلك القطعة الأدبية التي تبهر محبِّي اللغة والمعاني إلى اليوم.

قصيدة "خير جليس في الزمان كتاب" هي من بحر الطويل، قيلت عام 349 هجريًّا المقابل لـ 960 ميلاديًّا، وعدد أبياتها 43 ومطلعها "مُنًى كنَّ لي..."، وقافيتها الباء المضمومة، والآن سندرس أبياتها ببعض التفصيل، لنرى فيها أصداء كل ما سبق.
مُنًى كُنَّ لي أنَّ البَياضَ خِضابُ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فيَخفَى بتَبييضِ القُرونِ شَبَابُ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



يقول المتنبي أنه في شبابه وصغره كان يتمنَّى ابيِضاض خُصَل شَعرِه؛ ليكتسب الحكمة والوقار اللذَين يكونان مع كِبَر السن، وافتتاحية القصيدة عجيبة لمن لا يعرف سياقها التاريخي والمعنى الباطني المراد منها، فهو يذم السواد ويقصد كافور، ويمدح البياض ويَقصِد سيف الدولة!
لَيَاليَ عندَ البِيضِ فَوْدايَ فِتْنَةٌ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَفخْرٌ وَذاكَ الفَخْرُ عنديَ عابُ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



البِيض هنا هي النساء، وهو يقول: إنه كان يترفَّع عن سواد الشعر وقت الشباب، في الليالي والأيام التي كانت النساء تُعجب فيها بسواد شعره فيصيبهنَّ شبابُه بالافتتان، مع أنه كان لا يفتخر بهذا الأمر، بل يعدُّ الافتخار به عيبًا.
فكَيفَ أذُمُّ اليَومَ ما كنتُ أشتَهي http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَأدْعُو بِمَا أشْكُوهُ حينَ أُجَابُ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



يُحدِّث نفسه متسائلاً: كيف يُعقل إذًا أن يذمَّ الشيب والكهولة اليوم بعد كِبَر سنِّه، مع أنه كان يتمناهما في صغره، فهو يستبعد أن يكون من الذين يشتكون مِن تقدُّم العمر واشتعال الرأس شيبًا.
جلا اللَّوْنُ عن لوْنٍ هدى كلَّ مسلكٍ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
كما انجابَ عن ضَوْءِ النَّهارِ ضَبابُ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



يقول: إن السواد كان كسَحابة الضَّباب التي انزاحَت لتَكشِف تحتها ضوء النهار، وهو تشبيه قوي وعجيب من الشاعر؛ حيث جعل سواد الشعر مكروهًا، وكأنه الظلام، وجعل الشِّيب محبوبًا، وكأنه سطوع النهار، على عكس المُتعارَف عليه مِن تفضيل الشَّعر الفاحم على الأشيب، ومِن الواضح أنه يقدَح قريحته لنزع أي صفة جيِّدة عن اللون الأسود.. لون كافور!
وَفي الجسْمِ نَفسٌ لا تَشيبُ بشَيْبِهِ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
ولَو أنَّ ما في الوَجْهِ منهُ حِرَابُ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



هنا يَستدرك الشاعر ويقول للسامع: لا تظنَّ لمُجرَّد أني أشيَب الشَّعر وكبير في السنِّ أني ضعفت أو خارت قوتي، كلا! بل نفسي قوية لا تشيب ولا تَضعُف، حتى لو كان الشعر الأبيض هو كالحراب التي تطعَن في الوجه لتُضعِف الجسَد.
لها ظُفُرٌ إن كَلَّ ظُفرٌ أُعِدُّهُ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
ونابٌ إذا لم يَبقَ في الفَمِ نَابُ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



وهذه النفسُ لها أظافِر وأنياب معنوية ستقوم بدورها لحِمايتي بعد أن تَضعُف الأظافر والأنياب الجسدية.
يُغَيِّرُ مِنِّي الدَّهرُ ما شاءَ غَيرَهَا http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وأبْلُغُ أقصَى العُمرِ وَهْيَ كَعابُ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



وهي نفْس شابَّة فتية تُشبِه الفتاة التي بدأ ثديُها في النُّضوج والنهود، ولا يؤثِّر في نفسي هذه تقدُّم العمر ولا ازدياد السنوات.
وإنِّي لنَجْمٌ تَهْتَدي صُحبَتي بِهِ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
إذا حالَ مِنْ دونِ النُّجومِ سَحَابُ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



يبدأ المتنبي هنا بالفخر بنفسه، وأنه كالنَّجمِ على الأرض لهداية مَن يُصاحِبونه في أسفاره، وخاصة في الليالي التي تختفي فيها النجوم السماوية وراء حجاب مِن السحاب.
غَنيٌّ عَنِ الأوْطانِ لا يَستَخِفُّني http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
إلى بَلَدٍ سَافَرْتُ عنهُ إيَابُ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



يقول: ومِن صِفاتي أيضًا أني غير مُرتبِط ببلد معيَّن، بل في أي مكان أُوجَد أكون مَشهورًا ومعروفًا؛ فأنا مُستغنٍ عن أي بلد تركته، ولا حاجة لي بالعودة إليه، وهنا يشير المتنبي بصورة خفية إلى نيته القريبة في الرحيل عن مصر، وترك كافور الإخشيدي كما ترك سيف الدولة الحمداني مِن قبل!
وَعَنْ ذَمَلانِ العِيسِ إنْ سامَحتْ بهِ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وإلا فَفي أكْوَارِهِنَّ عُقَابُ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



وأنا مُستغنٍ أيضًا عن الإبل التي تَحمِل المسافرين وأحمالهم؛ إن سَمحت لي بركوبها فأركب، أما إن لم تسمح فأنا كطائر العُقاب أَعبُر الصحراء طائرًا دون الحاجة لدابة تَحملني.

ومما يستحقُّ الذِّكر أن المُتنبي خلال تخطيطه لرحلة هروبه السريَّة مِن مصر، قام بتجهيز راحلته وزاده في الخفاء، بعيدًا عن أعيُن المُتلصِّصين وجواسيس كافور، ودفَن أسلحته في موضع قريب بالصحراء كي يكون خروجه "طبيعيًّا"، ودون أن يَكتشِف أحد غرضه بأن يرحل نهائيًّا، وقد نجحَت خطته خاصَّة وأنه اختار التوقيت المناسِب، يوم عيد الأضحى والناس مُنشغِلة بالهدايا والطعام والزيارات.. إلخ.
وأصْدَى فلا أُبْدي إلى الماءِ حاجَةً http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَللشَّمسِ فوقَ اليَعمَلاتِ لُعابُ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



ومِن شدَّة تَحكُّمي في حاجاتي أني أعطَش فلا يظهر عليَّ أيُّ أثر للعطش، حتى والشمس تُرسِل أشعَّتها المتَّصلة على الإبل التي نركبها للسفر، وكأن الأشعة لُعاب يَسيل مِن الشمس.
وَللسرِّ منِّي مَوْضِعٌ لا يَنَالُهُ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
نَديمٌ وَلا يُفْضِي إلَيْهِ شَرَابُ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



ومِن صفاتي الشخصية أيضًا أَني كَتوم للأسرار، لا يستطيع أن يستخرجها مني صديق ولا حتى وقت شرب الخمر، حين تَضعُف العقول وتَنطلِق الألسن دون تقييد.
وَللخَوْدِ منِّي ساعَةٌ ثمَّ بَيْنَنَا http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فَلاةٌ إلى غَيرِ اللِّقَاءِ تُجَابُ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



أما بالنسبة للنِّساء، فأنا لستُ كهؤلاء الذين يتعلَّقون بهنَّ أكثر مِن اللازم، بل أكتفي بوقت قصير معهنَّ ثم أرحل دون التفكير في العودة مرة أخرى للقاء.
وما العِشقُ إلا غِرةٌ وَطَماعةٌ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
يُعَرِّضُ قَلْبٌ نَفْسَهُ فَيُصَابُ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



وما مسألة العِشق والحبِّ هذه إلا خداع مِن المرء لنفسه، فمن يُعرِّض نفسَه لسِهام الحبِّ فسيُصاب بها حتمًا.
وَغَيرُ فُؤادي للغَوَاني رَمِيَّةٌ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وغَيرُ بَنَاني للزجَاجِ رِكَابُ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



أما أنا فقلبي ليس فريسة للحسناوات، وأصابعي ليست مطيَّة تركبها زجاجات الخمر!

وقيل في رواية أخرى للبيت "للرَّخاخ"؛ أي: إني لا أميل إلى تضييع الوقت في ألعاب الشطرنج كما يفعل البعض، والرخ هو القلعة أو الطابية مِن أحجار الشطرنج.
تَركْنَا لأطْرَافِ القَنَا كُلَّ شَهْوَةٍ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فَلَيْسَ لَنَا إلا بهِنَّ لِعَابُ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



فاهتمامي الحقيقي ليس بالنساء وإدمان الشراب، بل بالرماح والقتال، فهذا هو اللعب الحقيقي الذي أميل إليه.
نُصَرِّفُهُ للطَّعْنِ فَوْقَ حَوَادِرٍ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
قَدِ انْقَصَفَتْ فيهِنَّ مِنهُ كِعَابُ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



وهوايتي هي الحرب والطعن بالرماح وأنا أمتطي الخيول القوية التي انغرست في أجسادها الرماح المتكسِّرة للأعداء.
أعَزُّ مَكانٍ في الدُّنَى سَرْجُ سابحٍ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَخَيرُ جَليسٍ في الزَّمانِ كِتابُ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



وهنا يأتي المتنبي بأحد أبيات الحِكمة التي اشتُهر بها؛ فأفضل مكان في الدنيا عنده هو ظهر الحصان السريع المنطلِق، وأفضل صديق حقيقي ليس بشريًّا بل ورقيًّا!
وبَحْرُ أبي المِسْكِ الخِضَمُّ الذي لَهُ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
عَلى كُلِّ بَحْرٍ زَخْرَةٌ وَعُبابُ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



وأخيرًا بعد 18 بيتًا من الفخر بنفسه، يبدأ المتنبي في غرض القصيدة الأساسي، وهو مدح كافور (أبي المسك) الإخشيدي، ويشبهه بالبحر الواسع، كثير الماء، عالي الأمواج الذي يفوق كل البحور الأخرى.
تَجَاوَزَ قَدْرَ المَدْحِ حتَّى كأنَّهُ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
بأحْسَنِ مَا يُثْنى عَلَيْهِ يُعَابُ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



وهنا يأتي المتنبي بإحدى مبالغاته المعتادة في المعاني، فكافور صفاته تفوق أيَّ مدح؛ حتى إن مَن يُحاول مدحه فهو في الواقع سيكون مُقلِّلاً من شأنه!
وَغالَبَهُ الأعْداءُ ثُمَّ عَنَوْا لَهُ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
كمَا غَالَبَتْ بيضَ السُّيوفِ رِقابُ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



يقول المتنبي: ومِن صفات كافور البطولية أن أعداءه حاولوا الانتصار عليه، ثم خضَعوا له ولسلطانه عليهم، وكأنهم الرقاب تُحاول ضرب السيوف فيكون مصيرها لا محالة القطع!

وهي صورة جمالية فائقة الجودة - في رأيي.

ومِن هذا البيت يمكن أن تلاحظ ارتباط السيوف باللون الأبيض، وبالتالي مصدر ربط المتنبي بين الشَّعر الأبيض واسم سيف الدولة الحمداني!
وَأكْثرُ مَا تَلْقَى أبَا المِسْكِ بِذْلَةً http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
إذا لم تَصُنْ إلا الحَديدَ ثِيَابُ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



يقول: ومِن شَجاعة كافور أيضًا أنه في الحرب يكون عاري الصدر، في حين أن المُقاتِلين اعتادوا على لبس الدروع الحديدية تحت الثياب؛ بحيث تُخفيها عن عيون العدو.
وأوسَعُ ما تَلقاهُ صَدْرًا وخَلْفهُ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
رِمَاءٌ وطَعْنٌ وَالأمَامَ ضِرَابُ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



ويكون مُقتحمًا مفتوح الصدر في معمعة المعركة، حين يُحيط به الأعداء من الأمام والخلف.
وَأنْفَذُ ما تَلْقَاهُ حُكْمًا إذا قَضَى http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
قَضَاءً مُلُوكُ الأرْضِ مِنه غِضَابُ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



ومِن عِظَم سلطته وقوة سلطانه أن أكثر أوامره تنفيذًا هي تلك الأوامر التي يغضَب منها الملوك، لكن لا يقدرون على عصيان أمره.
يَقُودُ إلَيْهِ طاعَةَ النَّاسِ فَضْلُهُ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَلَوْ لم يَقُدْهَا نَائِلٌ وَعِقَابُ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



والناس منقادة له لأسباب ثلاثة.. فالبعض يطمع في كرمه وعطاياه والبعض يخاف قوته وعقابه، لكن حتى لو لم يكن هذا أو ذاك فالجميع يطيعونه لفضله ولشَخصِه دون رغبة أو رهبة.
أيَا أسَدًا في جِسْمِهِ رُوحُ ضَيغَمٍ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَكَمْ أُسُدٍ أرْوَاحُهُنَّ كِلابُ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



يقول المتنبي مادحًا كافورًا: إنه أسد حقيقي، في حين أن الكثير مِن الملوك الآخَرين هم أشباه ملوك، وظاهِرُهم كالأسود، لكن حقيقتهم كالكلاب.
ويا آخِذًا مِن دَهْرِهِ حَقَّ نَفْسِهِ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَمِثْلُكَ يُعْطَى حَقَّهُ وَيُهابُ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



وأنتَ يا كافور تأخذ حقك كاملاً غير منقوص، ولم يَنقُص شيء مِن نصيبك من الدنيا، وكأن القدر يخشاك ويهابك! وهي مِن المبالغات السيئة عند المتنبي، لكنه يوردها كتمهيد وتوطئة لطلبه مِن كافور تنفيذ ما وعده إياه من توليه على إمارة يكون حاكمًا عليها.
لنا عِندَ هذا الدَّهْرِ حَقٌّ يَلُطُّهُ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وقد قَلَّ إعْتابٌ وَطَالَ عِتَابُ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



بعد أن فخَر بنفسِه ومدح كافورًا يأتي المُتنبي للغرض الثالث مِن أغراض قصيدته: السؤال والطلب.

يقول: إن الدهر يماطل في إعطائي حقي، ويُحاول ترضيتي بالقليل، وأنا عاتبته طويلاً على هذا التأخير، طبعًا المقصود هنا هو أن يفهَم كافور أن المُتنبي يَستعجِله للوفاء بوعده السابق بجعله أميرًا.
وَقَد تُحدِثُ الأيامُ عِندَكَ شيمَةً http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَتَنْعَمِرُ الأوْقاتُ وَهيَ يَبَابُ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



وهنا يعود المتنبي للتملُّق، فيقول: إن الأيام - على غير عادتها - تكون كريمة بقُربِك، فيتحول الفقر إلى غِنى، ويتحول القفر إلى معمور.
ولا مُلْكَ إلا أنتَ، والمُلكُ فَضْلَةٌ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
كأنَّكَ سَيفٌ فيهِ وَهْوَ قِرَابُ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



وأنت يا كافور الملك الحقيقي، وما يُحيط بك مِن مظاهر العظمة هي كماليات لستَ محتاجًا إليها لتصير عظيمًا؛ فهي كالجراب الذي يُحيط بالسيف.
أرَى لي بقُرْبي منكَ عَيْنًا قَريرَةً http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وإنْ كانَ قُرْبًا بالبِعَادِ يُشَابُ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



وأنا سعيد بالطبع بقربي منك؛ لكن سعادتي يشوبها شيء مِن الحزن؛ لأني بعيد عن تحقيق مطلبي، ويمكن أن نفهم البيت أيضًا كإشارة لحَنين المتنبي لسيف الدولة وصحبته.
وَهَل نافِعي أنْ تُرْفَعَ الحُجبُ بَيْنَنا http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
ودونَ الذي أمَّلْتُ مِنْكَ حِجابُ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




فما فائدة أنك تفتَح لي أبواب قصرِك وتستدعيني لقربك في الوقت الذي تمنعني فيه مِن مُرادي، وتَحجب عنِّي هدفي وغرضي!
أُقِلُّ سَلامي حُبَّ ما خَفَّ عَنكُمُ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَأسكُتُ كَيمَا لا يَكونَ جَوَابُ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



وهذا البيت يقوله المتنبي كتبرير لتجاهُله استدعاءات كافور المتكررة له؛ فقد كان في الفترة الأخيرة قد فقَدَ الأمل فيه وقلَّل كثيرًا مِن زيارته في قصره، وكادَ لا يراه إلا في المناسبات، وهو مما زاد مِن تأكد كافور مِن غرور وتكبُّر المتنبي.

يقول: إني أقلّ مِن سلامي عليك تخفيفًا عليك، وكي لا أُثقِل عليك بواجب ردِّ السلام!
وَفي النَّفسِ حاجاتٌ وفيكَ فَطَانَةٌ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
سُكُوتي بَيَانٌ عِنْدَها وَخِطابُ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



وهذا البيت تصريح واضِح مِن المتنبي لكافور، وكأنه يقول له: هل إلى الآن لم تفهم؟! أنا عندي حاجة معيَّنة وأنت تفهمها جيدًا، وترفض تلبيتها، فسكوتي وإقلالي الزيارة هو لتوصيل موقفي وإظهار غضبي من مماطلتك لي.

وَمَا أنَا بالباغي على الحُبِّ رِشْوَةً http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
ضَعِيفُ هَوًى يُبْغَى عَلَيْهِ ثَوَابُ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



لكن لا تظنُّ طبعًا أني أجعل تلبية طلبي هو مقابلٌ لحبِّي لك؛ مثل هؤلاء الذين ينتظرون منك الأعطيات والهدايا والمنح.
وَمَا شِئْتُ إلا أنْ أدُلَّ عَوَاذِلي http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
عَلى أنَّ رَأيي في هَوَاكَ صَوَابُ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



فكل هدَفي هو أن أُثبِت للذين لاموني في السابق أني كنتُ على حق عندما جئتُ إليك في مصر، وأنك فعلاً كريم تُعطي مَن سألك.
وَأُعْلِمَ قَوْمًا خَالَفُوني فشَرَّقُوا http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَغَرَّبْتُ أنِّي قَدْ ظَفِرْتُ وَخَابُوا http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



وأن أثبت لإخواني الذين خرَجوا معي مِن عند سيف الدولة أنهم أخطؤوا عندما لم يأتوا إليك هنا مثلي، واضح أن المتنبي يستخدم آخر حيلِه التملُّقية لمُحاولة إقناع كافور بإعطائه ما يرغب.

وهذا البيت إشارة إلى اثنين كانا سافَرا مع المتنبي مِن حلب من عند سيف الدولة الحمداني، لكن تركا الشام وذهبا شرقًا إلى العراق، في حين أن المتنبي ذهب غربًا إلى مصر.
جَرَى الخُلْفُ إلا فيكَ أنَّكَ وَاحدٌ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَأنَّكَ لَيْثٌ والمُلُوكُ ذِئَابُ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



وأنت - يا كافور - لا خلاف عليك، ولا ريب في عِظَم قدرك؛ فأنت كالأسد، في حين أن الملوك الآخرين كالذئاب، أقل قيمة وأقل مهابة.
وأنَّكَ إنْ قُويِسْتَ صَحَّفَ قارِئٌ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
ذِئَابًا وَلم يُخطِئ فقال ذُبابُ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



وهذه المقارنة السابقة والمقايسة تصحُّ أيضًا إن أخطأ القارئ فقرأ كلمة ذئاب على أنها ذباب، فالملوك الآخرون حقيرون كالذباب إن قورنوا بك.

ولاحظ أن اللغة العربية كانت تُكتَب لمدة طويلة دون نقط على الحروف، بل إن العرب اخترعوا علامات التشكيل قبل تنقيط الحروف أصلاً، وكان الداعي لـ "إعجام" الحروف بتنقيطها وتشكيلها هو ضعف اللغة العربية عند المسلمين الجدد غير العرب، وخافَ العلماء ألا يفهَم هؤلاء المُصحَف إن قرؤوه مكتوبًا دون نقاط فوق الحروف، فكلمتا "ذئاب" و"ذباب" كان لهما نفسُ الرسم في الكتابة، وعلامة الهمزة على الياء (ئـ) هي إضافة متأخِّرة أخذها علماء اللغة مِن رسم حرف العين (عـ).
وإنَّ مَديحَ الناسِ حَقٌّ وباطِلٌ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَمَدْحُكَ حَقٌّ لَيسَ فيهِ كِذابُ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



يقول أن المديح يكون أحيانًا بالصدق، وأحيانًا بالكذب والمبالغة، لكن مدحي لك صادق لا كذب فيه.
إذا نِلْتُ مِنكَ الوُدَّ فالمَالُ هَيِّنٌ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَكُلُّ الذي فَوْقَ التُّرَابِ تُرَابُ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



يقول المتنبي بعد كل هذا الإلحاح في الطلب، أن مجرَّد رضاك عني يا كافور يكفيني فوق أي مال، وكل الأشياء والأشخاص لا رغبة لي فيها، فهم تراب زائل.
وما كُنتُ لَولا أنتَ إلا مُهاجِرًا http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
لَهُ كُلَّ يَوْمٍ بَلْدَةٌ وَصِحَابُ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



وهذا أيضًا من الأبيات التعريضيَّة التي تحتمل معنيين، فالمعنى الظاهر أنك يا كافور سبب بقائي الوحيد هنا، وأن حبي لك هو دافعي للمكوث بمصر، أما المعنى الباطن فهو أنك يا كافور تحبسني عن الخروج من مصر والرحيل عنها وترفض مغادرتي للبلاد خوفًا مِن هجائي لك فيما بعد، ولولاك لكنتُ حرًّا طليقًا أسافر كل يوم مِن بلدة إلى أخرى.
ولكنَّكَ الدُّنيا إليَّ حَبيبَةً http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فَمَا عَنْكَ لي إلا إلَيْكَ ذَهَابُ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



ولكنك الدنيا كلها بالنسبة لي، فأين سأذهب إن بعدتُ عنكَ؟!
وكأنَّ المتنبي يقول في حسرة: وأين المَفرُّ؟!

وبهذا نأتي لنهاية القصيدة، وقد حاولت الاختصار قدر الإمكان دون الإخلال بالمعنى، إلا أنه يمكنك الرجوع للشروح المستفيضة لديوان المتنبي إن أردتَ الاستزادة.

أنثى حالمه
03-07-2015, 02:20 PM
تحية عطرة

موضوع رائع وسطور تزهو بما حملت

وكيف لايكون والحديث هنا عن المتنبي

شاعر ورمز ذا قيمة وسمو

راقت لي تلك السطور وماحوته من جمال فريد ومتعة

الفاضل والراقي فكرا الشفق

لقد اثريت المكان بـ الدرر

وكان العبق هنا عطر مختلف

سحابتك لاتكف عن الهطول

فيض تقدير وإحترام

مودتي

:fHupfw:

اوركيد
03-07-2015, 10:58 PM
المُتنبّي ..

قدوة الكثير من الشعراء رغم اختلآفه وتفردّه ..

الشفق /

شرح وافي للمعنى دون الخروج عن سيآقه ..

تقديري الجمّ لـ هذا الإختيار الذّي يدّل على علوّ ذائقتك ..

كل الودّ يآ أنت ..

سهم المحبه
03-08-2015, 01:19 AM
موضوع رائع الشفق وشرح توضيحي اروع
تسلم بارك الله فيك ويعطيك العافيه