عبد الرحمن الحازمي
05-14-2013, 01:16 PM
الأدب والتاريخ في معرض النقد الحديث
للأستاذ : عباس محمود العقاد
نشرت هذه المقالة في مجلة الأزهر في فبراير عام 1960 م
لا بد من حيلة ناجعة غير حيلة الرفض المطلق أو الظن المتردد بين الطرفين , كلما عرضت للناقد مشكلة من مشكلات الأخبار الأدبية أو التاريخية التي يختلط فيها الصدق بالكذب والخرافة بالواقع والحقيقة بالخيال , ولا يخلو مرجعٌ من مراجع التاريخ القديم أو من المراجع المعاصرة في كثير من الأحيان .
فما هي هذه الحيلة الناجعة ؟ إن الظن فيها لا يغني شيئاً إلا إذا أخذناه مأخذ الظنون ولم نزعم له أنه يترقى إلى مرتبة القول الملزم أو الرأي المقبول .
ونعتقد أن النقد العلمي في العصر الحديث وشيك أن يعتمد على وسيلة من أوثق الوسائل التي تستند إلى الحجة المقنعة و لا تكتفي بترجيحات الظن أو الذوق على ديدن النقاد قبل العصر الأخير , ونود في هذا المقال أن نجرب طريقة هذا النقد العلمي في سيرةٍ من أحوج السير إلى التمحيص , وأكثرها قبولاً لتطبيق هذه الطريقة على وجه واضح .
وتلك هي سيرة ’’ امريء القيس ‘‘ الذي أضل تاريخه الكثيرين قبل أن يلقبوه بالملك الضلِّيل .
فمن اليسير عندنا أن نعرض أخباره على التفسير العلمي فنعلم منها يقيناً ما ليس بالمختلق لاستحالة اختلاقه على مؤرخيه في صدر الإسلام وبعد صدر الإسلام إلى الأزمنة المتأخرة , لأن أولئك المؤرخين يجهلون التفسيرات العلمية التي تؤخذ من أخبارهم فيما يصححون روايته أو يتعمدون فيه التزيد والتلفيق .
وهذه أمثلة متفرقة من الأخبار التي تضم بعضها إلى بعض فيتم بها تفسير سيرة الشاعر على نحو لا يستطاع تلفيقه في زمانه أو في أزمنة مؤرخيه .
1- يقول كتاب الشعر والشعراء : ’’ كان امرؤ القيس جميلاً وسيماً , ومع جماله وحسنه مفركاً لا تريده النساء إذا جربنه , وقال لامرأة تزوجها : ما يكره النساء مني ؟ قالت : يكرهن منك أنك ثقيل الصدر خفيف العجز سريع الإراقة ‘‘ , وسأل أخرى فقالت : يكرهن منك أنك إذا عرقت فحت برائحة كلب , فقال : إنك صدقتني وإن أهلي قد أرضعوني بلبن كلبة .
2- وروى غير مصدر من مصادر تاريخه ’’ أنه تزوج امرأة من طيء فأبغضته من ليلتها وكرهت مكانها معه فجعلت تقول له : يا خير الفتيان أصبحت , فيرفع رأسه فينظر فإذا الليل كما هو فتقول : أصبح ليل (...فلما أصبح قال لها : قد علمت ما صنعت الليلة فما الذي كرهت مني ؟ ولم يزل بها حتى قالت مثل ما تقدم .
3- وروى الميداني أنه لما جاور في طيء نزل به علقمة الفحل التميمي فقال كل واحد منهما لصحبه أنا أشعر منك , فتحاكما إلى امرأته فقالت له : علقمة أشعر منك , لأنك زجرت فرسك وحركته بساقك وضربته بسوطك وأنه أدرك الصيد ثانياً من عنان فرسه , فغضب امرؤ القيس وقال : ليس كما قلت ولكنك هويته , فطلقها فتزوجها علقمة وبهذا لقب علقمة الفحل .
4- وأجمع المؤرخون على أنه كان يلقب بذي القروح , ولكنهم اختلفوا في إصابته بالقروح فقال بعضهم : إنها مرض كالجدري , وقال آخرون أنها من حلة مسمومة خلعها عليه قيصر بعد سفره من القسطنطينية انتقاماً منه , لأن رجلاً من بني أسد كان على صلة بحاشية قيصر فسمع أن امرأ القيس يغازل بنت قيصر فوشى به وألقى إلى الملك أن امرأ القيس ( غوي داعر ) وسيفضح ابنته بشعره .
5- وغير هؤلاء الرواة يقولون : بل كان قيصر راضياً عن الشاعر إلى ما بعد وفاته وأمر بإقامة تمثال له عند قبره شاهده الخليفة المأمون لما دخل إلى بلاد الروم ليغزو الصائفة .
***
هذه جملة أخبار متفرقة يؤخذ منها أن امرأ القيس كان مصاباً بالتهاب جلدي يحدث من اجتذاب المواد الدهنية والسكرية لطائفة من الطفيليات , ويفوح العرق في هذه الحالة برائحة كرائحة الكلب , لأن الكلب قليل المسام في جلده , فيشبه عرقه عرق الإنسان المصاب .
ويضاف إلى ذلك أن العلاقة بين الأمراض الجلدية وأمراض الوظائف الجنسية معروفة , ولهذه العلاقة يتخصص أطباء هذه الأمراض بعلاج الأمراض الجنسية كما هو معلوم .
فمن الواضح إذن أن أخبار الرواة عن الخلل الجنسي في بنية امريء القيس صحيحة لا يستطيع الرواة أن يلفقوها ويجمعوا بين دلالتها على هذه الصورة , ومن الواضح كذلك أن تعليل رائحة العرق برضاع لبن الكلبة وهم باطل , لأن الرضاع لو حدث لم تحدث منه تلك الرائحة , ونفهم من هذه القرائن بالبداهة أن قصة الحلة المسمومة وهم كهذا الوهم , لأن القروح لابد أن تنشأ من ذلك المرض الجنسي بعد طول العهد بالإصابة , ولأن الرجل الذي تبغضه زوجته لعيوبه الجنسية لا يبلغ من غوايته للمرأة أن يستهوي ابنة قيصر , وأن يتعرض في جريرة ذلك للوشاية والإنتقام .
وننتقل من روايات زواجه ومرضه إلى روايات أخلاقه فنعلم من جملتها ما يفسر لنا سمعته وما اشتهر به من الإباحة وافتضاح السيرة في أمور النساء .
1- ظهر مذهب مزدك على عهد الملك الفارسي قباذ , وهو مذهب يدعو إلى المشاركة في الأموال والزوجات , أراد الملك الفارسي أن ينشره بين العرب فأنكره المنذر بن ماء السماء ملك الحيرة وارتضاه الحارث بن عمرو ملك كندة .
2- وكان المهلهل الشاعر خال امريء القيس ماجناً مشتهراً بمصاحبة النساء ولقب من أجل ذلك بالزير وهو الرجل الذي يكثر من مزاورة النساء .
3- وكان امرؤ القيس يبيح في شعره ما لا يباح من التحدث بالفسوق والخيانة وغشيان الخدور , فلا جرم يقال عنه أنه غوي داعر ويتردد وصفه بهذه الصفة على ألسنة رواته .
فهذه أخبار عدة تفسر لنا سمعة الشاعر وتبين لنا البواعث النفسية التي تنبعث بها تلك الخليقة وتهيء لها جوها الإجتماعي ولوازمها العاطفية ( أولاً ) من خلائق القبيلة التي ولد فيها وسمحت لها أحوالها الإجتماعية بقبول مذهب يزدك ومطاوعة الملك الفارسي حيث خالفه ملك الحيرة .
ويأتي جو الأسرة بعد جو القبيلة فلا يستغرب من امريء القيس الناشيء أن يشبه خاله زير النساء من جانب الطبيعة ومن جانب الصناعة الفنية , وإذا كان خاله شاعراً يقول بفنه ما طبع عليه بوراثته , وقد يزيد امرأ القيس تمادياً في المجون والخلاعة أن يدفع بهما شبهة النقص ويعوض بهما قولاً ما ليس له في الحقيقة .
***
وعلى هذا النحو من المقابلات بين الروايات نعلم حدود الكذب أو حدود الوضع حتى عند ثبوت الوضع أو ثبوت التناقض بين الروايات في الخبر الواحد .
فإن كذب الوضاع ينتهي عند حدود الإستطاعة التي لا يقدرون على مجاوزتها , فليس في مقدورهم أن يختلقوا العوارض الطبية التي تصلح دون غيرها لتفسير أخبارهم ونقائضهم واستخراج الحقائق الظاهرة أو المستترة بين طواياها .
وليس في مقدورهم أن يصنعوا بيئة القبيلة ولا بيئة الأسرة ولا بيئة الجو النفساني الذي نشأ فيه الشاعر وعاش فيه حتى اتفقت هذه البيئات جميعاً على التمهيد لتكوين إنسان موجود , ولا بد أن يكون موجوداً إذا تلازمت مقدمات وجوده ونتائجها على وجه يمتنع فيه الكذب , لأنه كذب لا يستطيعه من يأتي به لو أراده وتحراه .
فالشخصية التاريخية الصادقة هي الشخصية التي تتوافق عناصرها , وتتجمع ملامحها وتتلاقى أجزاؤها كما تتلاقى أجزاء الهيكل المتفرق بين حفائر الأرض , فيركب كل منها في مكانه وتستوي الأعضاء من هنا وهناك كما تستوي في الكائن الطبيعي والصورة الحية .
وربما كان هذا الإستواء الذي لا حيلة فيه للرواة الكذبة ولا للرواة الأمناء أحق بالإعتماد عليه من ورود السيرة في كتب التاريخ من مصادر أخرى بعيدة من مصادرها العربية , فقد وردت سيرة امريء القيس في كتب نونوز وكتب بروكوب من مؤرخي الروم , وورودها هناك دليل وثيق على شخصية تاريخية لم تنفرد بها المصادر العربية , ولكن الصدق الذي تأتي به الأخبار على غير قصد من رواتها ووضاعها أصح في الدلالة من المكتوب المقصود الذي لا يستحيل عليه ظن التدبير .
***
منقول
للأستاذ : عباس محمود العقاد
نشرت هذه المقالة في مجلة الأزهر في فبراير عام 1960 م
لا بد من حيلة ناجعة غير حيلة الرفض المطلق أو الظن المتردد بين الطرفين , كلما عرضت للناقد مشكلة من مشكلات الأخبار الأدبية أو التاريخية التي يختلط فيها الصدق بالكذب والخرافة بالواقع والحقيقة بالخيال , ولا يخلو مرجعٌ من مراجع التاريخ القديم أو من المراجع المعاصرة في كثير من الأحيان .
فما هي هذه الحيلة الناجعة ؟ إن الظن فيها لا يغني شيئاً إلا إذا أخذناه مأخذ الظنون ولم نزعم له أنه يترقى إلى مرتبة القول الملزم أو الرأي المقبول .
ونعتقد أن النقد العلمي في العصر الحديث وشيك أن يعتمد على وسيلة من أوثق الوسائل التي تستند إلى الحجة المقنعة و لا تكتفي بترجيحات الظن أو الذوق على ديدن النقاد قبل العصر الأخير , ونود في هذا المقال أن نجرب طريقة هذا النقد العلمي في سيرةٍ من أحوج السير إلى التمحيص , وأكثرها قبولاً لتطبيق هذه الطريقة على وجه واضح .
وتلك هي سيرة ’’ امريء القيس ‘‘ الذي أضل تاريخه الكثيرين قبل أن يلقبوه بالملك الضلِّيل .
فمن اليسير عندنا أن نعرض أخباره على التفسير العلمي فنعلم منها يقيناً ما ليس بالمختلق لاستحالة اختلاقه على مؤرخيه في صدر الإسلام وبعد صدر الإسلام إلى الأزمنة المتأخرة , لأن أولئك المؤرخين يجهلون التفسيرات العلمية التي تؤخذ من أخبارهم فيما يصححون روايته أو يتعمدون فيه التزيد والتلفيق .
وهذه أمثلة متفرقة من الأخبار التي تضم بعضها إلى بعض فيتم بها تفسير سيرة الشاعر على نحو لا يستطاع تلفيقه في زمانه أو في أزمنة مؤرخيه .
1- يقول كتاب الشعر والشعراء : ’’ كان امرؤ القيس جميلاً وسيماً , ومع جماله وحسنه مفركاً لا تريده النساء إذا جربنه , وقال لامرأة تزوجها : ما يكره النساء مني ؟ قالت : يكرهن منك أنك ثقيل الصدر خفيف العجز سريع الإراقة ‘‘ , وسأل أخرى فقالت : يكرهن منك أنك إذا عرقت فحت برائحة كلب , فقال : إنك صدقتني وإن أهلي قد أرضعوني بلبن كلبة .
2- وروى غير مصدر من مصادر تاريخه ’’ أنه تزوج امرأة من طيء فأبغضته من ليلتها وكرهت مكانها معه فجعلت تقول له : يا خير الفتيان أصبحت , فيرفع رأسه فينظر فإذا الليل كما هو فتقول : أصبح ليل (...فلما أصبح قال لها : قد علمت ما صنعت الليلة فما الذي كرهت مني ؟ ولم يزل بها حتى قالت مثل ما تقدم .
3- وروى الميداني أنه لما جاور في طيء نزل به علقمة الفحل التميمي فقال كل واحد منهما لصحبه أنا أشعر منك , فتحاكما إلى امرأته فقالت له : علقمة أشعر منك , لأنك زجرت فرسك وحركته بساقك وضربته بسوطك وأنه أدرك الصيد ثانياً من عنان فرسه , فغضب امرؤ القيس وقال : ليس كما قلت ولكنك هويته , فطلقها فتزوجها علقمة وبهذا لقب علقمة الفحل .
4- وأجمع المؤرخون على أنه كان يلقب بذي القروح , ولكنهم اختلفوا في إصابته بالقروح فقال بعضهم : إنها مرض كالجدري , وقال آخرون أنها من حلة مسمومة خلعها عليه قيصر بعد سفره من القسطنطينية انتقاماً منه , لأن رجلاً من بني أسد كان على صلة بحاشية قيصر فسمع أن امرأ القيس يغازل بنت قيصر فوشى به وألقى إلى الملك أن امرأ القيس ( غوي داعر ) وسيفضح ابنته بشعره .
5- وغير هؤلاء الرواة يقولون : بل كان قيصر راضياً عن الشاعر إلى ما بعد وفاته وأمر بإقامة تمثال له عند قبره شاهده الخليفة المأمون لما دخل إلى بلاد الروم ليغزو الصائفة .
***
هذه جملة أخبار متفرقة يؤخذ منها أن امرأ القيس كان مصاباً بالتهاب جلدي يحدث من اجتذاب المواد الدهنية والسكرية لطائفة من الطفيليات , ويفوح العرق في هذه الحالة برائحة كرائحة الكلب , لأن الكلب قليل المسام في جلده , فيشبه عرقه عرق الإنسان المصاب .
ويضاف إلى ذلك أن العلاقة بين الأمراض الجلدية وأمراض الوظائف الجنسية معروفة , ولهذه العلاقة يتخصص أطباء هذه الأمراض بعلاج الأمراض الجنسية كما هو معلوم .
فمن الواضح إذن أن أخبار الرواة عن الخلل الجنسي في بنية امريء القيس صحيحة لا يستطيع الرواة أن يلفقوها ويجمعوا بين دلالتها على هذه الصورة , ومن الواضح كذلك أن تعليل رائحة العرق برضاع لبن الكلبة وهم باطل , لأن الرضاع لو حدث لم تحدث منه تلك الرائحة , ونفهم من هذه القرائن بالبداهة أن قصة الحلة المسمومة وهم كهذا الوهم , لأن القروح لابد أن تنشأ من ذلك المرض الجنسي بعد طول العهد بالإصابة , ولأن الرجل الذي تبغضه زوجته لعيوبه الجنسية لا يبلغ من غوايته للمرأة أن يستهوي ابنة قيصر , وأن يتعرض في جريرة ذلك للوشاية والإنتقام .
وننتقل من روايات زواجه ومرضه إلى روايات أخلاقه فنعلم من جملتها ما يفسر لنا سمعته وما اشتهر به من الإباحة وافتضاح السيرة في أمور النساء .
1- ظهر مذهب مزدك على عهد الملك الفارسي قباذ , وهو مذهب يدعو إلى المشاركة في الأموال والزوجات , أراد الملك الفارسي أن ينشره بين العرب فأنكره المنذر بن ماء السماء ملك الحيرة وارتضاه الحارث بن عمرو ملك كندة .
2- وكان المهلهل الشاعر خال امريء القيس ماجناً مشتهراً بمصاحبة النساء ولقب من أجل ذلك بالزير وهو الرجل الذي يكثر من مزاورة النساء .
3- وكان امرؤ القيس يبيح في شعره ما لا يباح من التحدث بالفسوق والخيانة وغشيان الخدور , فلا جرم يقال عنه أنه غوي داعر ويتردد وصفه بهذه الصفة على ألسنة رواته .
فهذه أخبار عدة تفسر لنا سمعة الشاعر وتبين لنا البواعث النفسية التي تنبعث بها تلك الخليقة وتهيء لها جوها الإجتماعي ولوازمها العاطفية ( أولاً ) من خلائق القبيلة التي ولد فيها وسمحت لها أحوالها الإجتماعية بقبول مذهب يزدك ومطاوعة الملك الفارسي حيث خالفه ملك الحيرة .
ويأتي جو الأسرة بعد جو القبيلة فلا يستغرب من امريء القيس الناشيء أن يشبه خاله زير النساء من جانب الطبيعة ومن جانب الصناعة الفنية , وإذا كان خاله شاعراً يقول بفنه ما طبع عليه بوراثته , وقد يزيد امرأ القيس تمادياً في المجون والخلاعة أن يدفع بهما شبهة النقص ويعوض بهما قولاً ما ليس له في الحقيقة .
***
وعلى هذا النحو من المقابلات بين الروايات نعلم حدود الكذب أو حدود الوضع حتى عند ثبوت الوضع أو ثبوت التناقض بين الروايات في الخبر الواحد .
فإن كذب الوضاع ينتهي عند حدود الإستطاعة التي لا يقدرون على مجاوزتها , فليس في مقدورهم أن يختلقوا العوارض الطبية التي تصلح دون غيرها لتفسير أخبارهم ونقائضهم واستخراج الحقائق الظاهرة أو المستترة بين طواياها .
وليس في مقدورهم أن يصنعوا بيئة القبيلة ولا بيئة الأسرة ولا بيئة الجو النفساني الذي نشأ فيه الشاعر وعاش فيه حتى اتفقت هذه البيئات جميعاً على التمهيد لتكوين إنسان موجود , ولا بد أن يكون موجوداً إذا تلازمت مقدمات وجوده ونتائجها على وجه يمتنع فيه الكذب , لأنه كذب لا يستطيعه من يأتي به لو أراده وتحراه .
فالشخصية التاريخية الصادقة هي الشخصية التي تتوافق عناصرها , وتتجمع ملامحها وتتلاقى أجزاؤها كما تتلاقى أجزاء الهيكل المتفرق بين حفائر الأرض , فيركب كل منها في مكانه وتستوي الأعضاء من هنا وهناك كما تستوي في الكائن الطبيعي والصورة الحية .
وربما كان هذا الإستواء الذي لا حيلة فيه للرواة الكذبة ولا للرواة الأمناء أحق بالإعتماد عليه من ورود السيرة في كتب التاريخ من مصادر أخرى بعيدة من مصادرها العربية , فقد وردت سيرة امريء القيس في كتب نونوز وكتب بروكوب من مؤرخي الروم , وورودها هناك دليل وثيق على شخصية تاريخية لم تنفرد بها المصادر العربية , ولكن الصدق الذي تأتي به الأخبار على غير قصد من رواتها ووضاعها أصح في الدلالة من المكتوب المقصود الذي لا يستحيل عليه ظن التدبير .
***
منقول